على الرغم من اتساع نطاق الصراعات المسلحة بين بعض القوى الإقليمية والدولية والتنظيمات الإرهابية في عدد من دول الأزمات، خاصةً في ظل العقبات التي تحول دون التوصل إلى تسويات سياسية مستقرة بشأنها، فإن ذلك لم يحل دون إقدام تلك الأطراف، في مراحل معينة ولأهداف وحسابات خاصة، نحو إبرام صفقات أو التوصل إلى تفاهمات حول بعض القضايا.
صفقات متعددة
لم يحل تفاقم المواجهات المسلحة بين الميليشيات المتحالفة مع النظام السوري وبعض التنظيمات الإرهابية، دون توصلها، بوساطة من جانب أطراف ثالثة، إلى صفقات لتبادل أسري أو فك الحصار عن بعض المدن والمناطق التي تحظى باهتمام خاص من جانب تلك الأطراف، لاعتبارات أمنية وطائفية متعددة.
وفي هذا السياق، أبرمت إيران وحزب الله اللبناني، في 28 مارس 2017، اتفاق هدنة ووقف إطلاق نار مع "جيش الفتح"، الذي يضم تنظيمات عديدة في مقدمتها "جبهة فتح الشام" (جبهة النصرة سابقاً)، حيث قضى الاتفاق بإخراج مسلحين (تابعين للتنظيمات الإرهابية) ومدنيين من منطقة الزبداني ومضايا ومخيم اليرموك بريف دمشق، التي تحاصرها القوات النظامية السورية والميليشيات الحليفة لها، مقابل إخراج مدنيين ومسلحين من القرى الشيعية في الفوعا وكفريا التي تحاصرها التنظيمات المسلحة، على أن يبدأ تنفيذ الاتفاق على مرحلتين بداية من 4 أبريل الجاري، وذلك بالتزامن مع إفراج السلطات السورية عن 1500 سجين.
ولم يكن هذا الاتفاق هو الأول من نوعه الذي يتم إبرامه بين الأطراف المتصارعة في سوريا، فقد انخرط بعض هذه الأطراف في المفاوضات التي أُجريت في ديسمبر 2016، برعاية روسيا وتركيا، من أجل التوصل إلى اتفاق حول مدينة حلب، انتهى بإخراج المسلحين التابعين للتنظيمات المسلحة منها، بشكل مهد المجال فيما بعد إلى انعقاد مفاوضات الأستانة ثم مفاوضات جنيف.
كما توصل النظام السوري إلى صفقة تبادل أسرى مع "جبهة فتح الشام" وبعض الفصائل المشاركة فيما يُسمى بـ "غرفة عمليات سلمى" ومنها "حركة أحرار الشام" إلى جانب "الفرقة الأولى الساحلية"، في 8 فبراير 2017، حيث تم الاتفاق على إفراج الطرف الأول عن 55 امرأة مع أطفالهن مقابل إفراج الطرف الثاني عن 54 امرأة وأطفالهن في ريف حماة.
وفي السياق ذاته، تتزايد احتمالات التوصل إلى صفقة جديدة لتبادل أسرى بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية خلال الفترة القادمة، حيث أعلن الناطق باسم "كتائب القسام" (الجناح العسكري لحركة "حماس") حسن أبوعبيدة، في 22 فبراير 2017، أن صفقة تبادل الأسرى مع إسرائيل أصبحت مسألة وقت، وذلك على الرغم الصعوبات التي حالت دون إتمام تلك الصفقة في الفترة الماضية ولم تنجح الأطراف المعنية في تجاوزها حتى الآن.
واللافت أن بعض القوى الدولية تبنت بدورها هذا الاتجاه، فعلى الرغم من أن "عدم التفاوض مع الإرهابيين" يمثل سياسة أمريكية مستقرة منذ فترة طويلة، فإن ذلك لم يعرقل الجهود التي بذلتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما من إتمام صفقة تبادل أسرى مع حركة "طالبان" الأفغانية، في أول يونيو 2014، والتي تم بمقتضاها إطلاق سراح السرجنت الأمريكي بول بيرغدال، وهو السجين الأمريكي الوحيد في أفغانستان، مقابل الإفراج عن 5 من عناصر الحركة من معتقل جوانتانامو.
كما كانت روسيا طرفاً رئيسياً في المفاوضات التي جرت مع "جيش الفتح"، في 7 سبتمبر 2016، والتي انتهت بالوصول إلى اتفاق قضى بإفراج النظام السوري عن 169 معتقلاً مقابل تسلم جثث 5 جنود روس قُتلوا بسقوط مروحية في محافظة إدلب في أغسطس من العام نفسه.
اعتبارات حاكمة
يمكن تفسير تصاعد الاتجاه نحو إبرام "صفقات بين الخصوم" في المنطقة، وذلك في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في الآتي:
1- ممارسة تطهير طائفي: يبدو ذلك جلياً في اتفاق إخراج المقاتلين والمدنيين السُنة من مناطق الزبداني ومضايا في ريف دمشق، مقابل إخراج المدنيين والمقاتلين الشيعة من الفوعة وكفريا، وهو ما يمكن أن يقلص من حدة الضغوط التي تتعرض لها إيران والميليشيات الحليفة بسبب الحصار الذي فرضته التنظيمات المسلحة على تلك المناطق الأخيرة.
وبالتالي، ربما تسعى إيران وحلفاؤها إلى التخلص من ورقة الضغط التي كان يمتلكها "جيش الفتح" بمحاصرته القرى الشيعية، والتي استخدمها للحيلولة دون تصعيد العمليات العسكرية ضده في محافظة إدلب.
كما أن إخراج السنة من ريف دمشق ربما يدعم الجهود التي تبذلها إيران في توسيع نطاق عمليات التغيير الديموغرافي في المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، استعداداً للمسارات المحتملة للصراع في سوريا، والتي لم تعد تلقى ارتياحاً من جانب طهران، بعد تراجع دورها لصالح روسيا وتزايد مخاوفها من التفاهمات الروسية - التركية، التي بدأت بعد حسم معركة حلب في منتصف ديسمبر 2016، واستمرت مع انعقاد مفاوضات الآستانة وجنيف.
2- التعرض لضغوط داخلية: فعلى سبيل المثال، تتزايد المطالب داخل إسرائيل من أجل إبرام صفقة لتبادل الأسرى مع حركة "حماس"، خاصةً من جانب عائلات الجنود الإسرائيليين الذين أسرتهم الحركة خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في منتصف عام 2014، إلى جانب ضغوط الرأي العام الذي يميل في معظم الأحيان إلى تسهيل المفاوضات الخاصة بتبادل الأسرى، فضلاً عن بعض المسؤولين السياسيين والعسكريين الذين انخرط بعضهم، خلال توليه مناصب رسمية، في بعض الصفقات المشابهة.
وفي هذا السياق، تشير تقارير عديدة إلى أن هذه الضغوط تمثل أحد أهم المتغيرات التي تدفع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة إلى إبرام صفقات أسرى مع حركة حماس، وإن كان بعضها لم يحظ بتوافق عام داخل إسرائيل بسبب التنازلات التي تقدمها تل أبيب في مقابل الإفراج عن أسراها أو تسلم جثث جنودها، حيث ما زال هناك اتجاه، خاصةً داخل الأجهزة الأمنية، يرى أن إبرام تلك الصفقات يفرض تداعيات سلبية على أمن إسرائيل، لاسيما أنه يقلص من هيبة الدولة ويدفع التنظيمات الفلسطينية دوما إلى محاولة تكرار عمليات خطف وأسر جنود إسرائيل لإجبارها على الدخول في صفقات أو مفاوضات تحقق مكاسب محددة لتلك التنظيمات.
وتبدو حركة "حماس" مدركة لتأثير الضغوط العائلية على الحكومة الإسرائيلية في هذا الملف، ومن هنا بدأت في توجيه رسائل عديدة من أجل دفع الأخيرة إلى إبرام صفقة جديدة والموافقة على شروط حماس فيها. وفي المقابل، ترد الحكومة الإسرائيلية بممارسة ضغوط على "حماس" ودفعها إلى إبداء مرونة في المفاوضات.
3- الانسحاب من مناطق الأزمات: وهي سياسة تبنتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق أوباما في التعامل مع الأزمات الإقليمية المختلفة، على غرار الأزمات الأفغانية والعراقية والسورية، حيث كان لافتاً أن صفقة تبادل الأسرى مع حركة "طالبان" التي عرَّضت الإدارة الأمريكية لانتقادات داخلية قوية باعتبار أنها انتهكت مبدأ "عدم التفاوض مع الإرهابيين"، توازت مع الإجراءات الانسحابية الأخرى التي اتخذتها الإدارة، على غرار تقليص الوجود العسكري الأمريكي في كل من أفغانستان والعراق، والعزوف عن توجيه ضربة عسكرية للنظام السوري في سبتمبر 2013 بعد اتهامه باستخدام الأسلحة الكيماوية في الهجوم على الغوطتين الشرقية والغربية لريف دمشق في أغسطس من العام نفسه.
4- تزايد أدوار دول ومؤسسات الوساطة: يظهر ذلك واضحاً في الجهود التي تُبذل من قبل ما يُسمى بـ "المؤسسة العامة لشؤون الأسرى" في سوريا، وهي لجنة مدنية معنية بدعم مساعي إبرام صفقات أسرى بين الأطراف المتصارعة. فقد تدخلت المؤسسة في الصفقة التي انتهت بتسليم "جيش الفتح" جثث الجنود الروس الخمسة مقابل الإفراج عن 169 معتقلاً في سجون النظام السوري. كما تدخلت تلك المؤسسة في الصفقة التي أبرمها النظام السوري مع قوى المعارضة في ريف حماة في فبراير 2017.
أيضاً، مارست بعض الدول، مثل قطر، أدواراً بارزة في هذا السياق، فقد شاركت قطر في المفاوضات التي أُجريت بين الولايات المتحدة وحركة "طالبان" في عام 2014، حيث استضافت عناصر "طالبان" الخمسة المفرج عنهم من معتقل جوانتانامو مقابل إطلاق سراح السرجنت الأمريكي بول بيرغدال. وسعى الرئيس الأمريكي السابق أوباما إلى الرد على الانتقادات التي وُجهت إلى الصفقة، بتأكيده أن "الحكومة القطرية أعطت ضمانات بشأن حماية الأمن القومي الأمريكي".
ختاماً، يبدو أن مثل هذه التفاهمات سوف تستمر خلال المرحلة القادمة، في ظل التطورات الميدانية والسياسية المستمرة التي تشهدها دول الأزمات، والتي تدفع الأطراف المنخرطة فيها إلى إجراء تغييرات مستمرة في تكتيكاتها العسكرية لتحقيق أهداف خاصة بها، أو لاستيعاب ضغوط داخلية وخارجية تتعرض لها.